فصل: تفسير الآية رقم (188):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (181- 184):

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)}
قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ} أي: عصابة، {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال عطاء عن ابن عباس: يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم المهاجرون والتابعون لهم بإحسان. وقال قتادة: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها، ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحميدي، حدثني الوليد، حدثني ابن جابر، وهو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني عمير بن هانئ أنه سمع معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك». وقال الكلبي: هم من جميع الخلق.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} قال عطاء: سنمكر بهم من حيث لا يعلمون. وقيل: نأتيهم من مأمنهم، كما قال: {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} [الحشر- 2]، قال الكلبي: يزين لهم أعمالهم ويهلكهم. وقال الضحاك: كلما جدَّدوا معصية جددنا لهم نعمة. قال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعمة وننسيهم الشكر. قال أهل المعاني: الاستدراج أن يتدرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا فلا يباغت ولا يجاهر، ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه في المشي، ومنه درج الكتاب إذا طواه شيئا بعد شيء.
{وَأُمْلِي لَهُمْ} أي: أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي، {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي: إن أخذي قوي شديد، قال ابن عباس: إن مكري شديد. قيل: نزلت في المستهزئين، فقتلهم الله في ليلة واحدة.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} قال قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلا فجعل يدعو قرشا فخذا فخذا: يا بني فلان، يا بني فلان، يحذرهم بأس الله ووقائعه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوت إلى الصباح، فأنزل الله تعالى: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم} محمد صلى الله عليه وسلم: {مِنْ جِنَّةٍ} جنون، {إِنْ هُوَ} ما هو، {إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال:

.تفسير الآيات (185- 187):

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)}
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ} فيهما {مِنْ شَيْءٍ} أي: وينظروا إلى ما خلق الله من شيء ليستدلوا بها على وحدانيته. {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} أي: لعل أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتوا قبل أن يؤمنوا ويصيروا إلى العذاب، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي: بعد القرآن يؤمنون. يقول: بأي كتاب غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدِّقون، وليس بعده نبي ولا كتاب، ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} قرأ أهل البصرة وعاصم بالياء ورفع الراء، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وجزم الراء، لأن ذكر الله قد مر قبله، وجزم الراء مردود على {يضلل} وقرأ الآخرون: بالنون ورفع الراء على أنه كلام مستأنف. {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يترددون متحيرين.
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} قال قتادة: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة؟ فأنزل الله تعالى: {يسئلونك عن الساعة} يعني: القيامة، {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: منتهاها. وقال قتادة: قيامها، وأصله الثبات، أي: مثبتها؟ {قُلْ} يا محمد {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} استأثر بعملها ولا يعلمها إلا هو، {لا يُجَلِّيهَا} لا يكشفها ولا يظهرها. وقال مجاهد: لا يأتي بها، {لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} يعني: ثقل علمها وخفي أمرها على أهل السموات والأرض، وكل خفي ثقيل. قال الحسن: يقول إذا جاء ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض، {لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً} فجأة على غفلة.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها».
{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي: عالم بها من قولهم أحفيت في المسألة، أي: بالغت فيها، معناه: كأنك بالغت في السؤال عنها حتى علمتها، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أن علمها عند الله حتى سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم عنها.

.تفسير الآية رقم (188):

{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)}
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أهل مكة قالوا: يا محمد، ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه وتربح فيه عند الغلاء؟ وبالأرض التي يريد أن تجذب فترتحل منها إلى ما قد أخصبت؟ فأنزل الله تعالى: {قل لا أملك لنفسي نفعا} أي: لا أقدر لنفسي نفعا، أي: اجتلاب نفع بأن أربح ولا ضرا، أي دفع ضر بأن ارتحل من أرض تريد أن تجدب إلا ما شاء الله أن أملكه.
{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} أي: لو كنت أعلم الخصب والجدب لاستكثرت من الخير، أي: من المال لسنة القحط {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} أي: الضر والفقر والجوع.
وقال ابن جريج: {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا} يعني: الهدى والضلالة، {ولو كنت أعلم الغيب} أي: متى أموت، لاستكثرت من الخير، يعني: من العمل الصالح وما مسني السوء.
قال ابن زيد: واجتنبت ما يكون من الشر واتقيته.
وقيل: معناه ولو كنت أعلم الغيب أي متى الساعة لأخبرتكم حتى تؤمنوا وما مسني السوء بتكذيبكم. وقيل: ما مسني السوء: ابتداء، يريد: وما مسني الجنون لأنهم كانوا ينسبونه إلى الجنون. {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ} لمن لا يصدق بما جئت به، {وَبَشِيرٌ} بالجنة، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدِّقون.

.تفسير الآيات (189- 190):

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)}
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني: آدم، {وَجَعَلَ} وخلق {مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني: حواء، {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ليأنس بها ويأوي إليها {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي: واقعها وجامعها {حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا} وهو أول ما تحمل المرأة من النطفة يكون خفيفا عليها، {فَمَرَّتْ بِهِ} أي: استمرت به وقامت وقعدت به، لم يثقلها، {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} أي: كبر الولد في بطنها وصارت ذات ثقل بحملها ودنت ولادتها، {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} يعني آدم وحواء، {لَئِنْ آتَيْتَنَا} يا ربنا {صَالِحًا} أي: بشرا سويا مثلنا، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} قال المفسرون: فلما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل، فقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري. قال: إني أخاف أن يكون بهمية، أو كلبا، أو خنزيرا، وما يدريك من أين يخرج؟ من دبرك فيقتلك، أو من قبلك وينشق بطنك، فخافت حواء من ذلك، وذكرت ذلك لآدم عليه السلام فلم يزالا في هم من ذلك، ثم عاد إليها فقال: إني من الله بمنزلة، فإن دعوت الله أن يجعله خلقا سويا مثلك ويسهل عليك خروجه تسمّيه عبد الحارث؟- وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث- فذكرت ذلك لآدم، فقال: لعله صاحبنا الذي قد علمتِ، فعاودها إبليس، فلم يزل بهما حتى غرهما، فلما ولدت سمياه عبد الحارث.
قال الكلبي: قال إبليس لها: إن دعوت الله فولدت إنسانا أتسمينه بي؟ قالت: نعم، فلما ولدت قال سميه بي، قالت: وما اسمك قال الحارث، ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت حواء تلد لآدم فيسميه عبد الله، وعبيد اللهُ وعبد الرحمن، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس وقال: إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث، فولدت فسمياه عبد الحارث فعاش. وجاء في الحديث: «خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض».
وقال ابن زيد: ولد لآدم ولد فسماه عبد الله فأتاهما إبليس فقال لهما: ما سميتما ابنكما؟ قالا عبد الله- وكان قد ولد لهما قبل ذلك ولد فسمياه عبد الله فمات- فقال إبليس: أتظنان أن الله تارك عبده عندكما، لا والله ليذهبن به كما ذهب بالآخر، ولكن أدلكم على اسم يبقى لكما ما بقيتما، فسمياه عبد شمس. والأول أصح، فذلك قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا}.
{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} بشرا سويا {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} قرأ أهل المدينة وأبو بكر: {شركا} بكسر الشين والتنوين، أي: شركة. قال أبو عبيدة: أي حظا ونصيبا، وقرأ الآخرون: {شركاء} بضم الشين ممدودا على جمع شريك، يعني: إبليس، أخبر عن الواحد بلفظ الجمع. أي: جعلا له شريكا إذ سمياه عبد الحارث، ولمن يكن هذا إشراكا في العبادة ولا أن الحارث ربهما، فإن آدم كان نبيا معصوما من الشرك، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك، كما يطلق اسم الرب على ما لا يراد به أنه معبود هذا، كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف، على وجه الخضوع لا على أن الضيف ربه، ويقول للغير: أنا عبدك. وقال يوسف لعزيز مصر: إنه ربي، ولم يرد به أنه معبوده، كذلك هذا.
وقوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قيل: هذا ابتداء كلام وأراد به إشراك أهل مكة، ولئن أراد به ما سبق فمستقيم من حيث أنه كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم.
وفي الآية قول آخر: وهو أنه راجع إلى جميع المشركين من ذرية آدم، وهو قول الحسن وعكرمة، ومعناه: جعل أولادهما شركاء، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم، كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تعييرهم بفعل الآباء فقال: {ثم اتخذتم العجل}، {وإذ قتلتم نفسا} خاطب به اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك الفعل من آبائهم. وقيل: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا، وقال ابن كيسان: هم الكفار سموا أولادهم عبد العزى وعبد اللات وعبد مناة ونحوه. وقال عكرمة: خاطب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم أي خلق كل واحد من أبيه وجعل منها زوجها، أي: جعل من جنسها زوجها، وهذا قول حسن، لولا قول السلف مثل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة المفسرين أنه في آدم وحواء.

.تفسير الآيات (191- 194):

{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)}
قال الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا} يعني: إبليس والأصنام، {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي: هم مخلوقون.
{وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} أي: الأصنام لا تنصر من أطاعها، {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} قال الحسن: لا يدفعون عن أنفسهم مكروه من أراد بهم بكسر أو نحوه ثم خاطب المؤمنين فقال: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى}.
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى} إن تدعوا المشركين إلى الإسلام، {لا يَتَّبِعُوكُمْ} قرأ نافع بالتخفيف وكذلك: {يتبعهم الغاوون} في الشعراء [الآية 224] وقرأ الآخرون بالتشديد فيهما وهما لغتان، يقال: تبعه تبعا وأتبعه إتباعا. {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} إلى الدين، {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} عن دعائهم لا يؤمنون، كما قال: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة- 6] وقيل: {وإن تدعهم إلى الهدى} يعني: الأصنام، لا يتبعوكم لأنها غير عاقلة.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني الأصنام، {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} يريد أنها مملوكة أمثالكم. وقيل: أمثالكم في التسخير، أي: أنهم مسخرون مذللون لما أريد منهم. قال مقاتل: قوله: {عباد أمثالكم} أراد به الملائكة، والخطاب مع قوم كانوا يعبدون الملائكة. والأول أصح.
{فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنها آلهة، قال ابن عباس: فاعبدوهم، هل يثيبونكم أو يجاوزونكم إن كنتم صادقين أن لكم عندها منفعة؟ ثم بيّن عجزهم فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا}.

.تفسير الآيات (195- 199):

{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} قرأ أبو جعفر بضم الهاء هنا وفي القصص والدخان، وقرأ الآخرون بكسر الطاء، {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أراد أن قدرة المخلوقين تكون بهذه الجوارح والآلات، وليست للأصنام هذه الآلات، فأنتم مفضلون عليها بالأرجل الماشية والأيدي الباطشة والأعين الباصرة والآذان السامعة، فكيف تعبدون من أنتم أفضل وأقدر منهم؟ {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} يا معشر المشركين، {ثُمَّ كِيدُونِ} أنتم وهم، {فَلا تُنْظِرُونِ} أي: لا تمهلوني واعجلوا في كيدي.
قوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} يعني القرآن، أي أنه يتولاني وينصرني كما أيدني بإنزال الكتاب، {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الذين لا يعدلون بالله شيئا فالله يتولاهم بنصره فلا يضرهم عداوة من عاداهم.
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا} يعني الأصنام، {وَتَرَاهُمْ} يا محمد {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} يعني الأصنام، {وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} وليس المراد من النظر حقيقة النظر، إنما المراد منه: المقابلة، تقول العرب: داري تنظر إلى دارك، أي: تقابلها. وقيل: وتراهم ينظرون إليك أي: كأنهم ينظرون إليك، كقوله تعالى: {وترى الناس سكارى} [الحج 2]، أي: كأنهم سكارى هذا قول أكثر المفسرين. وقال الحسن: {وإن تدعوهم إلى الهدى} يعني: المشركين لا يسمعوا ولا يعقلوا ذلك بقلوبهم، وتراهم ينظرون إليك بأعينهم وهم لا يبصرون بقلوبهم.
قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} قال عبد الله بن الزبير: أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وقال مجاهد: خذ العفو يعني العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس، وذلك مثل قبول الاعتذار والعفو والمساهلة وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك.
ورُوي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «ما هذا؟ قال لا أدري حتى أسأله، ثم رجع فقال: إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك».
وقال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي والضحاك والكلبي: يعي خُذْ ما عفا لك من الأموال وهو الفضل عن العيال، وذلك معنى قوله: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة- 219]، ثم نسخت هذه بالصدقات المفروضات. قوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي: بالمعروف، وهو كل ما يعرفه الشرع. وقال عطاء: وأمر بالعرف يعني بلا إله إلا الله. {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أبي جهل وأصحابه، نسختها آية السيف. وقيل: إذا تسفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه، وذلك مثل قوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان- 63]، وذلك سلام المتاركة. قال جعفر الصادق: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجرجاني ثنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، ثنا الهيثم بن كليب، ثنا أبو عيسى الترمذي، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الله الجدلي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح».
ثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ ثنا عماد بن محمد البغدادي ثنا أحمد بن محمد عن سعيد الحافظ ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عمر بن إبراهيم يعني الكوفي ثنا يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وإتمام محاسن الأفعال».